الصياد
كان هناك رجل كبير السن يعيش في إحدى المدن القريبة من البحر .. وكان لهذا الرجل أسرة كبيرة يكد ويكدح من أجل إعالتها ، فهو يروح إلى البحر كل يوم ، صباحاً ومساءاً ويعود إلى عائلته بما يسره الله له من الرزق ، فيأكلون ويشربون ويعيشون في سلام . وكان الرجل يسلك في ذهابه وإيابه طريقاً يسكن فيه والي المدينة … وكان للوالي جلساء من الوزراء والعسكر يقضون معظم أوقاتهم معــه ، فلفت نظرهم ذلك الرجل الصيــــاد بسنه المتقــــدم وملابسه المبتلة ودأبه المستمـــر، فقالوا :
– رجل في مثل هذا العمر ، ولا يكف عن العمل في البحر .. إنه رجل عجيب حقاً ، ولابد أن وراءه سراً ما . وراحوا يتهامسون ويتغامزون ويضحكون من الرجل ، والوالي صامت لا ينبس ببنت شفه .
– احضروا لي هذا الرجل حتى ننتهي من أمره .
ذهب أحد الحرس إلى الصياد ، وقال له :
– إن الوالي يريدك أن تحضر إلى مجلسه
خاف الرجل ، وقال :
– ماذا يريد مني الوالي ؟ أنا رجل فقير أكد من أجل لقمة العيش ،ولم أفعل شيئاً يغضب الوالي مني …
قال الحارس : الوالي يريدك وكفى .
أمتثل الصياد للأمر وذهب إلى الوالي ، فقال له :
أنت رجل كبير في السن ، فلماذا تذهب إلى البحر كل يوم ؟ … قل لي ماذا تفعل رد الصياد ببساطة : أصيد السمك .
قال الوالي مستغرباً : ليلاً ونهاراً تصيد السمك ؟! .. وماذا تفعل بثمنه ؟
قال الصياد : أدين وأفي الدين وأرمي ورائي .
أعجب الوالي برد الصياد ، وقال له : لا تبع رخيصاً .
فرد الصياد : لا توص حريصاً .
وعندئذ سمح الوالي للصياد بالانصراف ، قائلاً له :
لا عليك .. أذهب الآن ، وتوكل على الله .
اندهش الحاضرون ، وقال بعضهم لبعض: إن الوالي لم يقل للصياد شيئاً ، ولم يعطه شيئاً .. فلماذا استدعاه إذن ؟!
وأدرك الوالي فحوى حديثهم هذا ، فقال لهم :
أخبروني .. ماذا قال لي هذا الرجل ؟
قالوا : هذا رجل مجنون ، لم يقل شيئاً يفهم .
قال الوالي : مجنون أم غير مجنون … المهم أن تفسروا لي ما قاله .. ومهلتكم ثلاثة أيام ، فإن لم تفعلوا قطعت رؤوسكم .
أسقط في يد الحاضرين وأخذوا يفكرون فيما قاله الصياد للوالي ، فلم يصلوا بشأنه إلى أي تفسير . ولما كان الثمن رؤوسهم ، فقد قرروا الذهاب إلى الصياد والحصول منه على التفسير الصحيح .
قال لهم الصياد عندما سألوه عما قاله للوالي بالأمس :
أنا رجل صياد لا أعرف القراءة والكتابة ، وقد قلت للوالي ما حضرني من الكلام ، ولا أعرف ماذا قلت له .. والذي راح قد راح ، ولا حاجة بي لاستعادته .
قالوا له : لا بأس .. حاول أن تساعدنا وتفسر لنا ما قلته .
قال الصياد : كيف أخبركم بشيء لا أعرفه ؟!!
قالوا : سنعطيك مائة ريال .
رد الصياد : لا شيء عندي أقوله لكم سواء أعطيتموني مائة أو ألفاً .
قال الصياد هذا ، واستدار إلى عمله ، فلم يملك سائلوه إلا أن ينصرفوا ،وقفلوا عائدين إلى بيوتهم . وبالطبع مرت عليهم الساعات ثقيلة مخيفة حتى كان آخر يوم للمهلة المضروبة لهم ، فاجتمعوا وذهبوا إلى الصياد وأعطوه ألف ريال ، وقالوا له :
تفضل وفسر لنا ما قلته للوالي .
قال الصياد : حسناً سأفسره لكم … لقد سألني الوالي عما أفعل بثمن ما أصطاده من سمك ، فقلت له : أدين وأفي الدين وأرمي ورائي .. فأما ” أدين ” فهي أنني أطعم أولادي ، حتى إذا كبرت وعجزت عن الحركة ردوا عليّ ديني فأطعموني كما أطعمتهم . وأما ” أفي الدين ” فهي أنني أطعم أبي وأمي رداً لدينهم عندي ،وأما ” أرمي ورائي ” فأنا أطعم بناتي ، وسوف يكبرن ويتزوجن ويذهبن إلى أزواجهن ، فلا يرددن ديني عليهن . هذا هو تفسير ما قلت .
قالوا : ولم قال لك الوالي لا تبع رخيصاً ، فقلت له لا توص حريصاً ؟
قال الصياد : الوالي يعرف أنكم ستلجأون إليّ عندما تعجزون عن تفسير ما قلت ، ولذا أطلب مني ألا أبيعكم ما تطلبون بثمن بخس ، فأجبته بأن لا يوصي حريصاً .. وهاأنذا قد أخذت منكم ألف ريال ، وليس ألف ريال بالثمن القليل .
فرح السائلون بحل اللغز ،وشكروا الصياد وانصرفوا . وفي الصباح الباكر ذهبوا إلى الوالي فقال لهم :
هل عرفتم تفسير ما دار بيني وبين الصياد من حديث ؟
قالوا : نعم
قال الوالي : هاتوا ما عندكم
قالوا : هو ” يدين ” أي يطعم أولاداً ذكوراً ، ” ويفي الدين ” أي يطعم أباه وأمه ، ” ويرمي وراءه ” أي يطعم بناته .
قال الوالي : من أخبركم بهذا التفسير ؟
قالوا : لا أحد .
قال الوالي : هذا ليس تفسيركم ، ولابد أن تخبروني بصاحبه .
قالوا : أخبرنا به الصياد .
قال الوالي : هذا هو ما أردته بسؤالي إياكم تفسير ما قاله هذا الرجل ، ولعلكم استوعبتم الدرس .. ومنذ اليوم لا تستصغروا أحداً ، ولا تسخروا من أحد ، ولا تتجسسوا على أحد .