((قبل أن ننزف من الأرق الفراغ..يا منافينا: لنا موت نما فينا لنا وطن ينادينا))
أشتم رائحة الرحيل..في شراييني تتمدد مساحات الحنين والفقد والخيبة..لهذه الشتائية الليلة وحشة..ضاقت بي نفسي واتسعت رقعة الحزن حتى خالطت ملامحي،كنت كلما يمّمت يمبنا اتجهت يسارا..ما الغاية ما اهتديت.نضرت في أسفل حزني وجدتني بلا سلم أتسلق جدران خيبتي.نبتت في ذهني هندسة لكلمات عدة،سارعت في إخراج مذكرة صغيرة من جيبي..هممت لأن أكتب..ضللت لحظات في سكون..بعدها ما استطعت سوى أن أكتب كلمة حصار.
* * *
تتفخذني الريح..والغبار يغشى عيني وتلتصق حبيباته بوجهي..سألت أبي وأنا أحمل عنه حزمة الحشائش:
“لماذا صنعنا من الهم خبزا..وجعلنا الظلام لنا كمشكاة نور”
فغر فاه ونظر إلي باستغراب..هز رأسه وتابع سيره..نظارته الطبيتين الطيبتين تحميان عيناه من الغبار..أكملت أنا الأخر مسيري وعلى رأسي حزمة الحشائش..تركت ظلي ملقا على الأرض يسبقني ولا أسبقه..وإن أعطيته ظهري اختفى..كررت بحركات مسرحية هذه المكابرة..إلى أن أحسست بحزمة الحشائش تُنتشل من فوق رأسي..ويد غليظة تدفعني بحنق.
* * *
ابتسم بطيبة أبوية وقال:
“جراحنا نياشين نعلقها على كتف الزمن”
سألته كطفل يملأه الاستغراب:”ما نياشين؟”.ابتسم مرة أخرى وقال بنبرة خبير” هي أن تغادر بؤس لذل ألذ”
وضعت على كتف الراحلين معطفه.ظل برهة في صمته..من جديد ابتسم..ثم عاد لصمته ثم قال:
“بنيتم من طين جدرانهم قلاعا فأصبح نعيمهم لكم جحيما”
ضحك هذه المرة وهو يرى علامات الدهشة ترتسم بوجهي..كأي شيء لا يبالي بتركه تركني.كانقسام الغيم غيما زادني هما..بعيد حيث لا شمس هنالك لا طريق سوى بقلبي. صرخت عليه :”لكنهم كحبات غبار..ما إن أمسد وجهي يتساقطون” لكنه كان قد اختفى..ووحدي كنت أمام المرآة.
* * *
“مرّ العمر كقافلة بدون نباح”
هكذا يصغي صفير الريح لهذياني الشتائي..الليلة قارصة الفراغ..تنشر بذاءاتها حول أطرافي..والكلمات تنبت كنبتة السعد حول جدول في مخيلتي.Yanniوحده لا يكفي ورائحة مريم تملأني حد الهذيان وحد الفقد.النافذة ليست طريق لإشراقة الكلمات الليلة، ولا المكان مُجدٍ للولادة.لأخرج علني أجد في ابتلاع الظلام لطيفي ضالتي..قفلت باب الغرفة في وجه شتاتي..لا حقني..خرجت.. مشيت ..مشيت طويلا ومشيت.. ولكني ما اهتديت..أقفلت راجعا أعد خطواتي الخطوة تلو الخطوة..إلى أن وصلت للعدد99 حتى ذكرت رسالتها الأخيرة لي بالنقال:”أود لو أقبلك99 وتسعون قبلة وكل مرة أخطأ العدد فأعيد”أيقضت هذه العبارة عصفور الرغبة وأنعشتني..شيء من خلفي اضطرني للالتفات التفت.. شبح كأني أشبهه قادم من بعيد.
* * *
“من أنت؟”
باغتني هو وهذه الابتسامة الملصقة التي لا تغادره ..وددت لو أمسك بحجر أسقط به أسنانه..رائحة مريم ذكرياتٌ لظى سعيرها لم يخبو..ومؤشر عقارب الساعة تذكرني عصا أبي الغليظة أول الفجر.مالذي يختبئ في رأس هذا القلم..له ليال عدة وهو يرفض البوح.
“هل محوتِ أرقام هاتفي من ذاكرة أصابعك” كنت قد باغتها بسؤالي وهي تمسك بأطراف شالها لتعيد تدويره حول وجهها وكأنها تعزف بوتر..ارتبكت بادئ الأمر ابتسمت فقالت بفتور: “الأصفار لا تنتمي لذاكرة قط..”
“من أنت؟”
أمسكت بكتاب ما وقذفته به..ابتسم.. قهقه ورحل..ظل صدى السؤال يتكرر..وشظايا المرآة أمامي وحولي.القلم في صمته ومريم الأخرى تبتسم.
* * *
أمسكت بالفسلة ونصفتها..وكما يغفو الكون رويدا هكذا تنساب إلي مريم من شقوق الذاكرة..ترتب الفسلات المفصولة على شاكلة مربع..تسفُّ بعض الفسلات على شكل قلب..تضعه داخل المربع..تتلاصق بين سبابتيها فوق القلب..
“أخبرهم في البيت بأن يرتبوا السبلة..سيزورنا أهلك اليوم”
أوخزني صوت أبي وأيقضني..قلت له وأنا أبتسم كابتسامتها: “ولكنها لم تعد هنا..كي تنعش القهوة في الذاكرة وتأذن للريح أن تمرنا”
تأفف أبي..هزّ رأسه مرات وكأنه ينفضه من شيء ما..لملم “الخوص” من أمامي ثم نهض فقال: “اللهم ثبت لي عقلي وديني”
ابتسمت..نظرت إليها فلم أجدها..لم أجد المربع ولا القلب ولا ظل سبابتيها..كلمات تتقافز في المخيلة..لا قلمي و لا المذكرة معي،لم أعد أشتم رائحة الرحيل بل الغياب كانت تبتعد ..ولكنها كانت تبتسم.
نبهان
سالم الحنشي
alhanashi@yahoo.com